رباط ابن ياسين ومهد المرابطين الأول / عبد الرحمن محمد محمود الرباني

يكثر الحديث هذه الأيام عن جزيرة “تيدرة” وعن رباط الشيخ عبد الله بن ياسين ومن انضم إليه من المرابطين ويثور الجدل خصوصا حول مكان هذا الرباط وموقعه.

إن تعدد النظريات وتضارب الفرضيات بشأن مكان رباط المرابطين الأول ولّد حيرة بالغة لدى المهتمين وخلّف شكوكا كبيرة لدى من يعجبهم التشكيك في كلما له رمزية خاصة في هذه الربوع والتهوين من كلما يمكن أن يكتسي بُعدا حضاريا جامعا لشعوب هذه الأرض.

لقد كان الاعتقاد سائدا منذ البداية أن هذه الجزيرة “تيدرة” هي جزيرة المهد المرابطي التي تحدث عنها المؤرخون ووصفها ابن خلدون وغيره وصفا وافيا ودقيقا، غير أنه في وقت لاحق برزت نظريات تذهب مذاهب شتى تفترض أن الرباط كان على أديم جزيرة قريبة من مصب نهر السينغال، اعتقد البعض أنها على مقربة من مدينة كرمسين فيما اعتقد آخرون أنها قرب مدينة اندر “سينلوي” في جارتنا الجنوبية، فيما ذهب آخرون أبعد من ذلك فاعتبروا أن الجزيرة المعنية تقع جنوب مدينة “تنبكتو” عند عقفة نهر النيجر في جمهورية مالي الشقيقة..

لقد ساق الذين رفضوا أن تكون “تيدرة” هي جزيرة الرباط مسوغات نذكر منها:

 عدم تطابق الوصف التاريخي الوارد عن جزيرة الرباط مع ما هو معروف الآن من حال جزيرة تيدرة

صعوبة الوصول إلى الجزيرة لانقطاعها عن اليابسة وبعدها النسبي من البر

عدم توفر العصب الرئيسي للحياة الذي تمثله الموارد المائية في هذه الجزيرة

عدم وجود أي أثر مادي لهذا الرباط على تراب الجزيرة..

ورغم ما في الجزم المطلق بصحة هذه النظرية أو تلك من مجازفة فإن الترجيح بناء على ما يتوفر من معطيات ممكن بل وضروري جدا لمنح تاريخ المنطقة وتراثها ثقة واستقرارا أكبر وحمايته من انتهازية المشككين وعبث المتطفلين في انتظار ما يتعين القيام به من أبحاث ودراسات علمية حاسمة يقع على عاتق الجهات المختصة في الجمهورية الإسلامية الموريتانية عبؤها الأكبر.

إن تتبع مسوغات الرفض والتشكيك في أحقية جزيرة تيدرة بحمل لقب جزيرة رباط المرابطين يستدعي لفت الانتباه إلى الملاحظات والمعطيات التالية وتحليلها ما استطيع إلى ذلك سبيلا:

بخصوص وصف ابن خلدون للجزيرة بقوله: «يحيط بها النيل، ضَحْضَاحًا في الصيف، يخاض بالأقدام، وغمرًا في الشتاء يُعْبَر بالزوارق».  فالنيل هنا وإن كان اسم علم لنهر معروف بعينه فقد أطلقه الأقدمون على كل أنهار وبحار إفريقيا جنوب الصحراء دون تمييز أو تفصيل، أما الضحضاح من الماء فهو القليل وقريب الغور الذي لا يمنع من العبور سيرا على الأقدام أو على ظهور العيس، وكل هذه الصفات كانت إلى عهد قريب متوفرة في جزيرة تيدرة وقد عرفتُ وأدركتُ من أهلنا  من زار المقابر هناك راكبا وراجلا وهذا الأمر يؤكده العارفون بالمنطقة وسكانها الأصليون من أولاد عبد الواحد وتندغه وأهل بارك الله وأولاد بسبع… يشهدون على ذلك، بل إنه ولحد الساعة لا زالت توجد مسارات وممرات إلى الجزيرة لا تكاد تلال اليابسة فيها تغيب عين الأعين، وأي قبطان من غير العارفين بالمنطقة لا يمكنه أن يبحر فيها بغير دليل وإلا كانت سفينته عرضة للحوادث والسقوط أوالرسو الاضطراري في عرض البحر”اتْمكْتِ”، هذا في وقتنا الحاضر وفي ماضينا القريب فما بالك بعهد نشأة دولة المرابطين منذ حوالي 1000 سنة (بالمناسبة، لم لا تقوم الدولة الموريتانية بتخليد حدث إقليمي عظيم كهذا ولد على أرضها وحمل لواءه أبناؤها؟، إن تخليد ألفية قيام هذه الدولة التي أدخلت الإسلام إلى إفريقيا جنوب الصحراء ووحدت جزء كبيرا من شمال إفريقيا وضمت أجزاء معتبرة من شبه جزيرة إيبيريا فرصة نادرة متعددة الأوجه والفوائد تنمويا وديبلوماسيا..) ومن المعلوم أن جزيرة تيدرة كانت قبل 5000 -6000 متصلة بالبر الرئيسي اتصالا مباشرا ثم بدأت تبتعد عن القارة شيئا فشيئا بفعل التقلبات المناخية، ولعل هذه العوامل تسارعت بوتيرة أكبر خلال العقود الأخيرة بفضل ظاهرة الاحتباس الحراري وما رافقها من ذوبان جليد القارة القطبية ومن ثم ارتفاع منسوب مياه المحيطات وهو ما قضى في السابق وسوف يقضي في المستقبل إن استمرت الظاهرة على نفس الوتيرة على جزر أخرى  أو ابتعادها في عرض البحر واختفاء كثير من السواحل التي تقع على ارتفاعات منخفضة بالنسبة لمستوى سطح البحر.

أما بخصوص صعوبة الوصول إلى الجزيرة ففي الملاحظة السابقة ما يكفي لتوضيح نسبيته وعدم نهوضه، فالمسافة التي كانت تفصل الجزيرة عن اليابسة قبل 1000 عام لاشك أنها كانت أقل وغور البحر وقتها كان أضعف وتمرس الناس على ركوب الصعاب وتحملهم للمشاق وتصميمهم من أجل تحقيق أهدافهم لا سيما إذا كانت هذه الأهداف كبيرة ونبيلة كان أرسخ وأصلب..

ثم إن موقع الجزيرة بالنسبة لمضارب قبائل صنهاجه الرئيسية الثلاث وقتها كان أنسب لابن ياسين وأقرب للتقبل من غيره من المواقع المفترضة النائية عن مواقع هذه القبائل التي خرج من عندها طريدا أو مغاضبا، فقد كان من المعروف أنها تتموضع على الترتيب التالي:

1- قبيلة اكدالة في الغرب منتشرة على الشواطئ الشمالية،

2- قبيلة لمتونة في الوسط منتشرة على هضاب آدرار “جبل لمتونه”

3- قبيلة مسوفه في الشرق.

إن الذي يتبادر إلى الذهن ويقنع به العقل أن رجلا يمكن أن يكون مطاردا يتبعه الطلب ويخشى الغدر في أي لحظة ويمكن أن يؤتى من أي جهة، يسعى إلى أن يجمع بين خصال لا تجتمع إلا في هذه الجزيرة، أولاها تأمين الانسحاب و التواري عن الأنظار في أسرع وقت ممكن، ثانيها تأمين المأوى في مكان آمن وثالثها البقاء قريبا من الناس الذين يريد التأثير فيهم وإبلاغ رسالته إليهم وأخيرا تقريب الشقة على من يريد منهم اللحاق به.

أما الأماكن المفترضة الأخرى فيبدو تصور الوصول إليها والاحتماء فيها أمرا بعيد المنال ومعقدا فقد كانت إلى جانب بعدها البيّن من المنطقة التي هاجر أو هًجّر منها ابن ياسين وهي مضارب لمتونه أومضارب كداله محاطة في نفس الوقت بشعوب إفريقية لم يصل إليها بَعد من إشعاع الإسلام إلا النزر اليسير ولا يمكن  بسهولة تصور تقبلها لدخول أقوام غرباء لا تجمعها وإياهم أية روابط دون أن تنشأ عن ذلك صدامات أو احتكاكات ابتداء عند دخول الرباط أو انتهاء عند خروج الجيش المرابطي منه أو بين ذلك وذلك وهو ما لم يتحدث عنه أحد ضمن قصص التأسيس التي تغص بها كتب التاريخ، وما تواتر عليه المؤرخون أن رجال ابن ياسين حاربوا عند خروجهم أول الأمر قبيلة اكدالة الأقرب إلى رباطهم ثم أخضعوا قبيلة لمتونه أعز القبائل الصنهاجية وأصل أمراء الدولة الوليدة، أما القبائل الإفريقية فقد تأخر غزو المرابطين لها حتى عودة الأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني من المغرب حيث شرع في فتح الممالك الإفريقية وإدخالها في دين الله أفواجا.

أما الحديث عن عدم توفر مقومات للحياة في الجزيرة ففيه مبالغة كبيرة من عدة جوانب، وقبل التطرق إليها لا بد من التذكير بأن الناس استمروا وإلى وقت قريب -قبل إعلان المنطقة محمية طبيعية يحظر دخولها إلا بضوابط صارمة- ينتجعون في الجزيرة ويقيم فيها بعضهم فصولا من السنة مع مواشيهم بشكل منتظم..

أما عن مقومات الحياة بالنسبة لداعية مطارد كعبد الله بن ياسين فلا شك أن أولها وأكثرها استعجالا هو الأمن  والإفلات من قبضة المتربصين أو من تسول له نفسه الملاحقة حتى تستكمل الحركة استعداداتها وتمتلك وسائل القوة والمغالبة، وهو أمر لا خلاف على أنه متوفر وبامتياز في هذه الجزبرة.  

بعد الأمن مباشرة تأتي مقومات الحياة المادية من مأكل ومشرب، فالأول لا شك أنه متوفر لدرجة لا نظير لها مع وفرة الأسماك والحيوانات البرية من طيور وغزلان وعدم استبعاد وجود أشجار مثمرة ونباتات برية صالحة للاستخدام البشري، أما الأمن المائي فقد كان تحديا مباشرا في الصحراء كلها وليس في هذه الجزيرة وحدها ومع ذلك فقد كانت توجد فيها آبار قليلة العمق تتجمع فيها مياه الأمطار وتتكاثف فيها قطرات الندى توفر للسكان احتياجاتهم القليلة من المياه العذبة المخصصة للشرب تحديدا ولا يمكن امتياحها في كل الأوقات بل إنها تورد حصريا في الوقت ما بين انبلاج الصبح وقبل بزوغ الشمس بقليل وتكون غزارة مياه هذه الأحساء القصيرة متناسبة طردا مع جودة موسم الأمطار ومتفاوتة حسب فصول السنة، وعلى الرغم من محدودية هذه المصادر عموما فإنها توفر الضروري من مياه الشرب، وتلبي  احتياجات هي في كل الأحوال احتياجات قليلة نسبيا بسبب عادة الناس في الترشيد والاحتياط في المحافظة على الماء وقلة المؤونة فيه واعتدال المناخ معظم أيام السنة.

أما فيما يتعلق بعدم وجود أي أثر مادي لهذا الرباط على تراب الجزيرة، فإن أغلب إن لم نقل كل الباحثين في هذا المضمار يعتقدون أن ذلك الرباط لم يكن صرحا ماديا من طوب أو حجارة وإنما كان رباطا معنويا لتربية الروح وتزكيتها ومجاهدة النفس وأطْرها على تحمل الطاعة والصبر عن المعصية ومدرسة جامعة لتعلم العلم الشرعي والدعوة إلى الله بالحسنى وإعداد الرجال لحمل راية الجهاد من أجل نشر الإسلام الصحيح وتمثل تعاليمه السمحة وإعمار الأرض بعدله وعلومه.

لقد كان رباط هؤلاء القوم الزاهدين في ملذات الحياة الدنيا أيام تجمعهم وائتلافهم مجرد خيّم من صوف وشعر أو أعرشة من حطب وحشائش وبعد خروجهم من ذلك الرباط الإعدادي أصبح رباطهم الجديد صهوات خيولهم ورواحل جمالهم حتى قيض الله لهم أن جمعوا تحت لوائهم أمما وشعوبا لا حصر لها وخضعت لسلطانهم أراض شاسعة امتدت من بلاد الإسبان والبرتغال شمالا حتى خليج غينيا جنوبا، إن الصروح  التي شادوا في رباطهم الأول لم تترك أطلالا ولم تبق من الآثار إلا ما تركت في النفوس من وحدة في الدين والعقيدة والفقه والتصوف لا زالت آثارها بادية للعيان في هذه الربوع خصوصا وفي شمال وغرب إفريقيا عموما، لقد بادت وذابت صروح الطوب والحجارة تحت عاديات الزمان وبقي صرح رباط ابن ياسين وصحبه صامدا لا تزعزه الزعازع ولا تأخذ منه الأيام..

خلاصة القول أنما يتوفر من معطيات وما أتيح من أخبار حول مهد المرابطين ورباطهم الأول يصب كله تقريبا في اتجاه واحد يدعم النظرية التي تطوق جزيرة تيدره بهذا الشرف وينزلها هذه المنزلة الفريدة إلى أن يأتي ما يفند ذلك ويدحضه بأدلة وبراهين لا يرتقي إليها الشك ولا أخال ذلك وفق المعطيات الراهنة إلا بعيد المنال.

والعلم كل العلم عند الله تعالى.  

نقلا عن موقع: موريتانيا اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق